"وتقوى الله عز وجل هي التي تحصل بها سعادة الدنيا والآخرة"، ولو لم يكن من تقوى الله إلا سعادة الآخرة لكفى، وإلى أي شيء يسعى عباد الله المتقون إلا لها؟! ولكن الله تعالى تفضل بزيادة النعمة، فجعل سعادة الدنيا مرتبطة بتقواه والإيمان به والعمل ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى))[طه:123]... ((
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))[غافر:51] ففي الدنيا يجعل الله سبحانه وتعالى العاقبة للمتقين؛ فينصر عباده المؤمنين، ويقر أعينهم بهزيمة أعدائهم: ((
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))[الصف:13].
هذا في الدنيا، وهو غير النعيم الذي وعدهم به في الجنة عنده سبحانه وتعالى، فمن فضله عز وجل أن جعل سعادة الدنيا والآخرة تنال بتقواه، فإذا اتقاه العبد حصل له كل خير في الدنيا والآخرة.
يقول: [فهو سبحانه أهل التقوى، وهو أيضاً أهل المغفرة]. فهو الذي يتقى، وهو الذي يغفر الذنوب "فإنه هو الذي يغفر الذنوب؛ لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه" فالمخلوق عاجز عن أن يغفر، وإذا لم يغفر الله للعبد فهو معرض للعقوبة، فمن الذي يجب أن يُتقى؟! ذاك الذي يملك أن يغفر، والذي يجير ولا يجار عليه، أم الذي لا يجير ويجار عليه؟! إن من يجير ولا يجار عليه هو الذي يتقى، وهو الله وحده لا شريك له، ولهذا قال بعض السلف : [[
ما احتاج تقي قط، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))[الطلاق:2-3]]]، فالتقي: هو المتقي لله سبحانه وتعالى، وهو لن يحتاج؛ أي لن يفتقر إلى المخلوقين افتقاراً كلياً.
من اتقى الله جعل له من الضيق مخرجاً، وجعل له من أمره يسراً، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، فجعل المخرج مرتبطاً بالتقوى، فالتقوى كالشرط لحصول المخرج مما فيه العبد، وإن طال به الدهر، وامتد به الألم أو الضيق.
والله سبحانه وتعالى قد حقق ذلك لكل عباده الأتقياء من الأنبياء والصالحين، كما حققه للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة الكرام عندما ضيّق عليهم الكفار في
مكة، واشتدت عليهم وطأتهم حتى بلغ بهم الكرب مبلغه، فقد حصرهم الكفار في
الشعب حتى أكلوا أوراق الشجر من شدة الجوع الذي أصابهم، فلأنهم كانوا يتقون الله جعل لهم من أمرهم مخرجاً، وفتح الله تعالى عليهم حتى هاجروا وأعزهم الله عز وجل، ثم رجعوا إلى
مكة فاتحين، ودخلوا المسجد الحرام آمنين لا يخافون، محلقين رءوسهم ومقصرين.
سبحان الله! هذه هي عاقبة التقوى وإن طال الزمن: ((
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ))[ص:88] فما احتاج تقي قط، لأن الله قد ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق به الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فهذا فضل منه سبحانه وتعالى.
فقد جعل الله لهم الدنيا التي يسعى إليها كثير من الناس ويسخطون الله بسببها، ولهذا قال بعض
السلف: [[
حب الدنيا رأس كل خطيئة]] فلو نظرت إلى أي خطيئة أو ذنب لوجدت أن سببه إيثار الدنيا على الآخرة، ومحبتها والرغبة بالتمتع بما فيها من شهوات حسية أو معنوية: كالشهرة أو المنصب أو المجد مثلاً؛ فالدنيا أساس كل ذنب وخطيئة ومصيبة، فالمؤمن إذا علم أن التقوى هي أساس الرزق، وأنه إذا اتقى الله سيرزقه من حيث لا يحتسب؛ لم يعص الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يحصل ذلك الرزق، فعليه أن يتفقد تقواه.
ولهذا قال رحمه الله: [فإذا لم يحصل ذلك دلّ على أن في التقوى خللاً، فليستغفر الله وليتب إليه] إذا لم يحصل المخرج من الضيق، فليعلم أن في تقواه خللاً، لابد أن يراجع نفسه ويبحث عن الباب الذي حصل في الخلل، كما جاء في الحديث: {إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه} فحرمان الرزق إنما هو بسبب الذنوب التي أهلكت الأمم قبلنا؛ فهي التي تمنع عن الناس رحمة الله، فيحرمون الغيث ويبتلون بالسنين لكي ينيبوا إليه ويستغفروه، فإذا اتقوا ربهم عز وجل أغاثهم: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا))[نوح:10-12] علمهم نوح عليه السلام أن يقوموا بأمر واحد فقط لينالوا الخيرات العظيمة والمغفرة والنعيم والبركة والسعادة والرخاء والأموال والبنين، وهو أن يستغفروا الله عز وجل، فكل هذه الأشياء لا تنال إلا بتقوى الله، لا بالخطط وإن أحكمت، ولا بالتدبير الاقتصادي وإن أحكم، ولا بالذهب ولا الدنانير ولا الدراهم، قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ))[الأعراف:96]، وقال تعالى: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا))[الجن:16]، وقال: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ))[المائدة:66] ((وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ))[النساء:39] ماذا يخسر الإنسان إن أطاع الله؟! وماذا عليه لو آمن بالله واليوم الآخر واتقى الله عز وجل؟! لا شيء، بل سينال في الدنيا السعادة والطمأنينة، ويفوز بالجنة في الآخرة عند الله سبحانه وتعالى.